القابلة، "الداية"، أو المولدة.. هي أسماء تطلق على امرأة ظلت تلعب لسنوات طويلة دورا أساسيا في توليد النساء ورعايتهن أثناء الحمل والولادة.. متنقلة بين حامل وأخرى ومتفقدة لأحوال هذه وتلك، قبل أن يدق بابها أحدهم مستعينا بخدمتها من أجل توليد زوجته..
لـ"القابلة" دور رئيس في حمل بشرى الولادة، فبيدها الأمر حسب خبرتها وسمعتها لدى أوساط العائلة، فقد تموت على يدها أجنة وقد تحيى أخرى، وحسب الجميع فهي امرأة استثنائية تفهم كل شيء عن الولادة ومشتقاتها.
ظلت لقرون عديدة في التراث الثقافي المغربي خصوصا، والتاريخ العربي عموما، شخصية لها "كاريزما" خاصة، فبمجرد طلبها ينتظرها الكبير والصغير على باب المنزل، يرافقها أحدهم إلى غرفة الحامل المتوجع، مُرفقة بحقيبة تحمل بداخلها كل مستلزمات التوليد، فيما يمدها أهل الدار بالقطن والماء الدافئ والمطهرات الضرورية، لتنفرد بالحامل أو بمساعدة إحدى نساء العائلة التي ترضخ لأوامرها في كل ما تطلبه. الجميع في المنزل يعتبرها "سيدة الموقف"، ذلك أنه بيدها سيخرج المولود، ويضاف اسم جديد لقائمة العائلة التي تنتظر بفارغ الصبر أمام باب الغرفة.
مهنة تتوارثها الأجيال
السيدة عائشة، والتي تبلغ من العمر 60 سنة، قضت نصف حياتها "كقابلة" بعدما ورثت المهنة عن أمها التي كانت تصحبها منذ صغر سنها لتوليد نساء الحي، لكن رؤية منظر جنين يخرج من بطن أمه استغرق وقتا طويلا لتتقبله عائشة ببساطة، دون أن يستفزها المنظر، وتخيفها أصوات الأنين والألم التي تصدرها المرأة.
تقول عائشة في هذا الشأن " أتذكر كيف كان شعوري لرؤية امرأة تلد مباشرة لأول مرة حيث تقيأت وصدمت لعدة أيام، متخيلة أنه في يوم من الأيام سأكون في وضعها ".
عائشة اعتادت الآن على الأمر، ولم تعد تؤثر فيها مشاهد الولادة، بل أصبحت تقوم بتوليد بعض النساء بحضور أمها التي تعلمها جميع "قوانين الولادة"، لتتسلم رسميا مهنة والدتها بعد أن توفيت هذه الأخيرة، وفرض عليها الأمر الواقع.
انتشرت سمعتها في أزقة الحي وتجاوزتها إلى أزقة وأحياء أخرى، تقول عائشة بكل فخر "مهنتي نبيلة، أحس وكأني أعطي حياة جديدة لأمهات طالما انتظرن 9 أشهر نبأ خروج الجنين سالما معافى إلى هذا العالم".
ما يزيد من 30 سنة في مهنة عائشة لم يصادفها أن مات جنين بين يديها، وهو ما يجعلها أكثر اعتزازا بالعمل الذي تقدمه خدمة لنساء قد يدفعن كل ما يملكن من أجل التخلص من مولود يسبب لهن أكثر المواقف ألما، إلا أن عائشة لم تكن تشترط مبلغا محددا مقابل عملها.
تقول عائشة "أحيانا كنت أتلقى مبالغ كبيرة من الزوج الذي كان يفرح إذا ما كان جنس الطفل مثلا هو ما كان ينتظره ليغدقني بالمال الوافر، وأحيانا العكس". لكن أغلب الأحيان كانت تقوم عائشة بدورها بدون مقابل مكتفية بـ "الله يرحم الوالدين" كثمن للخدمة.
القابلة بثوب عصري
في السنوات الأخيرة قل الإقبال على عائشة التي تقدمت في السن، وأصبحت لا تثق في قدراتها تماما، حيث تقول "منذ أن بدأت العمل كقابلة لم يتوف بين يدي رضيع أبدا، لكني أصبحت أخاف من ذلك مؤخرا".
قلة الإقبال على خدماتها لا يرجع بالأساس إلى ضعف ثقتها في نفسها، بل إلى انتشار المستشفيات والمستوصفات، حتى في العالم القروي، وانتشار القابلات العصريات اللواتي يدرسن المهنة بقواعدها عوض التواتر والوراثة، كما أنهن متخصصات في أمور النساء والتوليد.
ولم تعد النساء يغامرن بحياتهن من أجل الولادة المنزلية، خصوصا أن الواحدة منهن قد تقابل حالات يستحيل فيها التعامل مع الحامل إذا كانت الولادة ستتم في بيت غير مجهز، وهو ما كان يؤدي في القديم إلى خطر على صحة المرأة، أو على سلامة المولود، ويؤدي إلى الوفاة في أحيان كثيرة كإصابة الحامل بأمراض ضغط الدم، أو الربو، أو عندما يكون وضع الطفل مقلوبا أو مستعرضا.
حالات كانت تؤدي إلى وفاة العديد من الحوامل لترضى العائلات بالقضاء والقدر "المكتب عليهم"، قبل أن يظهر تقدم الطب، ويشخص هذه الأسباب، ويقلل من خطورتها بظهور العمليات القيصرية.
عوامل عديدة، من تقدم طبي وتطور في العقلية المغربية، جعلت عائشة تفهم أن التوليد المنزلي لن يكسبها قوت يومها بعد أن توجهت النساء إلى القابلات العصرية المؤهلات لقيام بالدور على أكمل وجه؛ تقول عائشة "لقد رضيت بالأمر الواقع، بل حتى ابنتاي نبهاني إلى خطورة الأمر، وصعوبة تحمل المسؤولية في ظل الوضع الحالي".
0 التعليقات:
إرسال تعليق