قبل البدء...
بعد يوم متعب، توفرت لي الفرصة مع رفيقي الذي أتى لزيارتي من فاس لإفراغ حتى الأخير ما كان في قلبي..
حالة إنسانية يمارسها جميع الناس فيما بينهم، فرصة ثمينة أعترف بها و بتفاصيلها، سعادة استثنائية تمخض عنها التوغل في أسئلة سلطت الضوء على بعض مرافق حياتنا النضالية و الاجتماعية.
لم أتركه يتزحزح من موقعه. قدرت أن موازين القوى المختلفة بيننا لا تسمح بإعلان عنفواني و حساسيتي الزائدة، و لا ماركسيتي و لينينيتي المتهورة ستشفع لي في محاورته حول قضايا و طني و قومي بجهتي، مكناس تافلالت. قلت له هذا الكلام قبل أن يتسرب التعب إلى وضعنا و نجعل من الاتحاد السوفياتي و كوبا قضية جلستنا.
و رغم ما أتاحه لي من تعرف على أفكار و قيم بعض جيراننا، ضغطت على نفسي رغم ضجيج ما أحدثته مقابلة كرة القدم الاسبانية من حولنا، و حولت تواضعه إلى منصت لشكاوي تافهة، عاطفية و لا طبقية.
كان ينظر لي متأملا و أنا أحكي له عن رحلتي الأخيرة لفاس و طنجة و الرباط، و لقائي ببعض المسؤولين الحزبيين و عدم تمكني من لقاء آخرين .. و ما صادفته في طريقي من فرح وحزن، و كأنني ذلك المبتدئ في حضرة العلاقات السياسية و الاجتماعية.
دون أن أنحرف عن عرض الجوهر، تظاهر رفيقي بالاحتجاج، لكنه سلك معي طريق أسرار المعرفة و صدق الصحابة حتى زالت الرؤية بالتدريج.
أسرار المغرب العميق..
كان شكلي يحمل طابع الوقار و الحزن، و لذلك كنت أشد ما أنتبه إليه هو تجربة صديقي مع أعيان جهته. كانت هناك أيضا قصتنا الجماعية أيام عين قادوس تخترقنا بين الحين و الآخر، لكنه سرعان ما عاد يوقظ في داخلي حكمة الثقة و عزة النفس.
لم يكن في نيتي تقديم أي تحليل ظرفي و لا أي رغبة في التعبير له عن طموحاتي. أما ما كان يدور في عقلي هو فشل المعالجة السياسية الحالية لواقعنا. و فجأة، و من دون اتفاق مسبق، تساءلنا على التشابهات مع مجتمعات الأعيان في جهاتنا المختلفة، و كيف نستطيع التعرف على خصوصياتها، مع ما يمكن دراسته سوسيولوجيا من أجل فهم تعايش مغرب الحداثة مع مغرب القبيلة و الزاوية و المخزن.
و دون خشية الوقوع في المأزق التبريري الذي يرفع شعار الخصوصية من أجل ضمان الاستمرارية، إستحضرنا المؤسسات و مستواها الغامض الذي لا زالت تخترقه ثقافة و ممارسة و "سياسة القياد الكبار"، فكانت مكناسة الزيتون نموذجا. حيث لا زالت علاقات الفيودالية تعرقل أي تطور و نماء حقيقي، و تعيد إنتاج علاقات هجينة بدون روح إنسانية و تخضع في غالبها إلى المعاملات المادية الصرفة، و هو ما ينعش الولاءات للأشخاص و التبعية للأعيان.
و رغم ما تحمله مكناسة الزيتون من تاريخ عمراني وثقافي، و من لقب كولونيالي " باريس الصغيرة"، تستمر الهيكلة الاقتصادية و السياسية لكبار ملاكي الأراضي الكبار و خدامهم و من سار على نهجهم، المحرك الرئيسي لسياسة الحكم المحلي. وجهة نظر صديقي و أمثاله بخصوص هذا الموضوع تستحق كل تقدير، لأنها تلامس "السلطة المحلية" التي تغدي "السلطة المركزية". و "السلطة المحلية" هذه توجد اليوم تحت وصاية "تاقبيلت" التي تصنع الرؤساء و تحطمهم فيما بعد.
كانت الليلة أطول من الليالي المعهودة، و رغم سواد لونها الفاحم، طاردنا الضجيج من حولنا و من وسط البلبلة التي راحت تكبر و تتسع في دائرتنا الصغيرة. ثم قادنا الحديث عن وظيفة نمط الانتاج المخزني الذي قاربه إبن مكناسة الزيتون الباحث في الاقتصاد، المرحوم محمد صلاح الدين، من زاوية علاقات التملك الاستغلالي و التعاوني السائدة داخل التشكيلة الاجتماعية المغربية التي تجمع بين نمط إنتاج قائم داخل الجماعات القبلية/القروي من جهة، و نمط إنتاج داخل الجماعات المخزنية أو الخاضعة للمخزن من جهة ثانية.
لكن هل فعلا لا زالت أطروحة محمد صلاح الدين و غيره قائمة، و يمكن الاستفادة منها لتفكيك طلاسم الأخطار المحدقة بمكناسة الزيتون؟ هذا هو السؤال الذي وحدنا في لحظة من احتداد نقاشنا، لتبقى هناك أسئلة أخرى عالقة لا ندري متى سنجد الجواب عنها.
فرغم حالة الإستنفار التي تعلن عنها السلطة المركزية بين الحين و الآخر، و رغم متابعة و مراقبة دورات المجالس الجماعية، يبقى الخوف من وسطاء السلطة العميقة سيد الموقف.
لقد تم عزل أبو بكر بلكورة، القيادي في حزب العدالة و التنمية، و عمدة مكناسة الزيتون السابق بتهمة "محاولة الحصول على أصوات ناخبين و استمالتهم للتصويت على حزبه عن طريق اعفائه من رسوم التنبر" لدى المحكمة الابتدائية بمكناس، ثم مثل فيما بعد أمام قاضي التحقيق المكلف بجرائم الأموال بمحكمة الاستئناف بفاس على خلفية تورطه في جرائم مالية كبرى. لكن ماذا بعد؟ بإقالة بلكورة تم حل مشاكل مكناس و تحسين أوضاع ساكنتها؟ ثم ماذا يعرفه الرأي العام عن هذا الملف الذي لا زالت العدالة لم تقل فيه كلمة الفصل؟ و لماذا هذا التمديد الذي فاق ثلاث سنوات؟
قد نختلف مع بلكورة سياسيا قلنا أنا و صديقي و نحن ننبش في أغوار هذا الملف، لكن هذا لم يمنعنا من القول أن إقالة رجل الأعمال الذي استقطبه الجناح الدعوي للعدالة و التنمية للسياسة، قد قوى الحزب في المدينة و استفاد من الوضعية الدكتور إدريس بوانو و ذ. إدريس الصقلي، و كلاهما اليوم قياديان بارزان و طنيا و برلمانيا.
غير أن تلك الكيانات التي أوجدت الشروط المادية و السياسية ليصبح هؤلاء زعماء على المستوى المحلي و الوطني في تنظيم له جناحه العالمي الإسلامي، غير ملزمة بمعرفة هل تم إدماج هؤلاء في الدواليب التنظيمية العالمية، أم هم مجرد نخب محلية ساعدتها الظرفية التاريخية لتصبح جزء من التشكيل الاجتماعي لمكناسة الزيتون.
هذه أمثلة تستحق النقاش بكل تقدير و رزانة و نحن نطل على الذكرى الثالثة لحرة 20 فبراير، حيث من المستحيل دراسة التاريخ الاجتماعي و البنيات الاجتماعية المحلية دون التساؤل عن صعود العدالة و التنمية رغم محاكمة رجل الأعمال الذي فتح لهم باب النجاح و أغلقه على نفسه.
لم نكترث بالزمان و المكان. كانت الساعة تشير إلى العاشرة و كان الحديث يدور في كل شئ حول مكناسة الزيتون لمحاولة فهم الاحتقان الاجتماعي و السياسي الذي تعيشه المدينة. كما حاولنا أن نفهم مبررات صمت العدالة و التنمية محليا، رغم قاعدته الانتخابية الواسعة التي بوأته مكانة جد متقدمة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. حيث كما يعلم الجميع، إن حزب العدالة و التنمية محليا لا يعارض السلطة الزمنية للقياد و البشوات و لا يعارض التسيير الإقليمي الإداري و لا الجهوي و لا تسيير الجماعة الحضرية و لا غرفة الصناعة و التجارة و الخدمات و لا الغرفة الفلاحية ولا غرفة الصناعة التقليدية و لا أي مؤسسة من المؤسسات العمومية.
أسئلة، كيفما كان الحال، قادتنا في نهاية مطاف لقائنا، إلى ضرورة الحديث عن بداية مرحلة يدشنها الحزب الحاكم في العديد من الجهات عنوانها التطبيع مع المؤسسات مقابل الالتزام بالصمت و السكوت على ما يجري في العديد من المدن، و ربما هذا هو الدور الحقيقي للجناح الحزبي الذي ربما لم يرتمي بعد في أحضان الجناح الدعوي.
و نحن نستعد للرجوع الى بيوتنا، صارحني صديقي بأن بلادنا في حاجة الى أسياد السلم الاجتماعي لمقاومة و مناهضة المحميين، و المساهمة في بناء مجتمعات محلية مستقلة بدون "القياد الكبار" و أعوانهم، و بدون "القايدية العقارية" و ملكيات بقايا الفيودالية و المتملصين من الضرائب
0 التعليقات:
إرسال تعليق