يعتبر المغرب الأقصى من أخصب البلاد العربية فكرا، وأغزرها إنتاجا، ولا يكاد يوجد من بين النقاد والمتتبعين منازع في هذا الوصف، فقد هيأت تربته وظروفه في الفترة المعاصرة الأسباب والشروط لظهور نخبة فكرية وثقافية متميزة، أغنت الثقافة العربية بنصوص نوعية، ذاع صيتها، وانتشر ذكرها بين العرب، وشغلت الكثير منهم بنسب ومقادير مختلفة في السنوات والعقود الماضية، ولعل أكبر شاهد على هذه المكانة، الرتبة المتقدمة التي يحتلها الفكر المغربي بين نصوص الفكر العربي المعاصر وبيبليوغرافيته.
إن الجاذبية التي تمتع بها الفكر المغربي المعاصر، وحسن التلقي الذي حظي به من طرف سائر العرب، يعود بعضها إلى انشغاله والتزامه الواضح بأسئلة المصير العربي، وعلى رأسها سؤال سبل استعادة الحضور التاريخي للأمة العربية والإسلامية، ويعود بعضها الآخر إلى تميز مقارباته المعرفية لأسئلة "الاستعادة"، ومن ثم، فأكثر نصوص الفكر المغربي شهرة بين العرب هي تلك التي اشتغلت على الأسئلة الكلِّية للنهضة، ومشتقاتها، من منظور الفلسفة، و"الكلام المعاصر"، مع ما يعنيه هذا الجنوح من إيثار للعقلانية المنهجية، وصبر في سبر أعماق السؤال العربي.
وهكذا؛ فقد تمكن الفكر المغربي المعاصر من خلال انشغاله بأسئلة "الاستعادة"، ومقاربتها فلسفيا وعقلانيا، من تحرير العقل العربي من ثقل اللحظة، وغواية الجزئيات والظرفيات...، ومن ثم الدفع به إلى التفكير فيما وراء اللحظة، وتجاوز الأعراض، والنفاذ إلى الجوهر، فأسئلة من قبيل من نحن؟ وأين نقف من هذا العالم؟، وكيف السبيل لاستئناف نشاطنا الحضاري؟، بعض من كلٍّ واسع من الأسئلة التي تناولها الفكر المغربي المعاصر في أعمال مختلفة، وجسد من خلالها خصوصياته، كمقاربة فلسفية وعقلانية، متمكنة من مفاهيم التفلسف المعاصر، وماهرة في توظيفها.
ومن أهم الأعمال الفكرية المغربية التي كثر الطلب عليها في الساحة الثقافية العربية، وعكست بقوة الخصائص التي ذكرناها سالفا، أعمال الأستاذ عبد الله العروي، والدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله، والدكتور طه عبد الرحمن، فقد اعتنى هؤلاء أكثر من غيرهم -كما ونوعا، وبشكل مباشر- بأسئلة "الاستعادة"، تحت عناوين ومسميات مختلفة، من قبيل الحداثة، والنهضة، والإصلاح، والتجديد... إلخ، كما شكل كل منهم نموذجا (Paradigme) معرفيا مختلفا عن الآخر، وبنية فكرية مستقلة عنه، فأطروحة عبد الله العروي، تختلف عن أطروحة الجابري، وأطروحة هذا الأخير تختلف عن أطروحة طه عبد الرحمن.. إلخ.
إن هؤلاء الثلاثة أفنوا جزءا مقدرا من أعمارهم في التفكير في حل لغز التخلف، وبالتالي دلالة الأمة على سبل الرشاد، وتدارك التأخر التاريخي الذي وقعنا فيه بسبب نفاذ طاقة التقدم في نموذجنا الحضاري العربي، وسنحاول فيما يلي تقريب القارئ العربي من أهم مفاهيم وخصائص أطروحات الحداثة لدى الرموز الثلاثة، بصورة ميسرة، ومحرضة على القراءة والاكتشاف.
1- أطروحة الأستاذ عبد الله العروي: الحداثة التاريخانية
اهتم الأستاذ عبد الله العروي مبكرا بالمصير العربي وقضايا الحداثة، وتجلى هذا الأمر بوضوح في كتابه الشهير «الأيديولوجية العربية المعاصرة» (1967م)، وفي الكتب الأخرى التي تلته، وفي مقدمتها كتبه حول المفاهيم: الدولة، والأيديولوجية، والحرية، والعقل، بالإضافة إلى كتابي «العرب والفكر التاريخي» 51973م)، و«ثقافتنا في ضوء التاريخ» (1983م)، ففي «الأيديولوجية العربية» وجه العروي انتقادات حادة للتشكيلات الأيديولوجية العربية الأساسية، التي تقود الممارسة الإصلاحية العربية، وتنير لها الطريق، وفي مقدمتها، الأيديولوجية السلفية من خلال نموذج محمد عبده؛ والأيديولوجية الليبرالية من خلال نموذج سلامة موسى...، وبالمقابل وضع الخطوط العريضة لمشروع الأيديولوجية العربية، القادرة على تأطير الممارسة العربية تأطيرا صحيحا، والتسفير الآمن للشعوب العربية نحو الحداثة.
إن الأيديولوجية العربية المعاصرة التي اقترحها العروي من أجل عقلنة الممارسة الإصلاحية، وتحديثها، تنبني على ثلاث مفاهيم رئيسية: مفهوم الذات/الأصالة؛ والماركسية الموضوعية؛ والقطيعة، فالحداثة المنشودة من طرف العرب، والتي تنازعوا طرقها وسبلها منذ القرن 19م، تقتضي التخلص من وهم الأصالة، وثنائية الذات والآخر، والإندماج في التاريخ الإنساني الواحد،[1] ومن مستلزمات هذا التحول، إعادة النظر في مفهوم الآخر، فالآخر بالنسبة للعرب والمسلمين بشكل عام - حسب العروي - ليس بالضرورة ودائما الغرب "كَكُلٍّ"، بل هناك اختراق متبادل، ففي الواقع هناك امتداد للآخر في "الذات"، كما أن هناك امتداد للذات في "الآخر"، وبالتالي عوضا عن النظرة التقابلية، التي يختص بها السلفي، والمورثة للعداء والصراع بين العرب والغرب، يقترح العروي نظرة أخرى تحفز العرب على التطابق مع الآخر، وتحديدا الآخر المسمى عنده الغرب التائب، فالغرب «الذي يعادينا ونعاديه، يعاكسنا ونعاكسه، هو الغرب الظاهر، السميك المعتم، المستغلق على نفسه وعلى غيره، المغتر برياضه وحدائقه، بشوارعه ومدافعه، الذي يظن أنه في غنى عن موافقة الإنسان على مشاريعه. لكن الغرب التائب، المراجع لأوضاعه، الذي دون أن يتخلى عن محيطه الجميل المريح يذكر الجميع بالآمال القديمة، المتمثلة في أساطير الأولين، آمال إنسان مطمئن إلى نفسه متصالح معها، الغرب الذي يتطلع إلى المستقبل من خلال مخاطبة شعوبه وشعوبنا، ذلك غرب يجب أن نسمح له إن أردنا تجاوز ما يمليه علينا الغضب والعجز من احتجاج أهوج».[2]
ومن ثم، وبناء على هذا الفهم، وبهذه الطريقة يتجاوز العروي مفهوم الذات المنغلقة أو الأصالة المزعومة، ويدعو بالمقابل النخب والشعوب العربية إلى التمدد نحو الآخر، وهو في هذه الحالة الغرب التائب، الغرب الذي يتبرؤ من فواحش الليبرالية وموبقاتها السياسية من استعمار وغيره، إنه وببساطة الجناح الماركسي في الثقافة والممارسة الغربية المعاصرة، باعتبار الماركسية خطاب نقدي للغرب لليبرالي.
إن نفي العروي للأصالة بربطه بين مصير العرب والمصير الإنساني من جهة، والتحليلات العميقة للبنى والتشكيلات الأيديولوجية العربية المختلفة من جهة ثانية، جعله لا يتردد في الحكم على العرب بالانتماء إلى نوع من الماركسية، أسماه بالماركسية الموضوعية، التي تحكم سلوك الإصلاحي العربي سواء كان ليبرالي أو سلفي، ودون أن يكون له وعي وإدراك علمي مسبق لمفهوم الماركسية، فكل تيارات الفكر العربي المعاصر -في نظر العروي- تؤول بدرجات متفاوتة إلى الماركسية، باعتبارها أساسا منطقيا للإيديولوجيا العربية المعاصرة، وجوابا مقنعا ومتسقا على جميع متطلبات الفكر العربي،[3] «ماركسية موضوعية.. أي أنها تفرض نفسها على المفكر العربي كمنتهى، كنتيجة حتمية مضمنة في الأدلوجة التي يؤمن بها ويعمل لترويجها».[4]
وإزاء هذه "الحقائق" النظرية التي توصل إليها العروي بعد تحليلات شاقة، وحكمه بانتساب الفكر العربي موضوعيا للماركسية، من منطلق وحدة التاريخ الإنساني وغيره من المنطلقات، دعا صاحب «الأيديولوجية العربية» العرب إلى اعتناق الفكر التاريخي بمقوماته المختلفة، و«أحسن مدخل، وأحسن مدرسة للفكر التاريخي يجدهما العرب اليوم في الماركسية، في تأويلها التاريخاني» للواقع،[5] وذلك بهدف تحديث المجتمع العربي، وتدارك التأخر التاريخي الذي يعانيه.[6]
فالماركسية في نظر العروي هي تجسيد ملموس للفكر التاريخي والتاريخاني الذي من شأنه مساعدة العرب على اللحاق بالعصر، وتحقيق الحداثة بمعانيها المختلفة، ومن ثم، كانت جل مؤلفات العروي ونصوصه، نماذج معرفية وثقافية للفكر التاريخي (الماركسي) في مواضيع مختلفة، تسعى لتحقيق قطائع نوعية في العقل والثقافة العربيتين، تيسيرا لسبل الاندماج في الحداثة، ولم يترك لنا العروي مجالا للشك في هذه الخلاصة، ففي مقدمة كتابه المعنون بمفهوم العقل، يقرر العروي أن جل المفاهيم التي تحدث عنها، أو تلك التي لم يطرقها، تندرج في نطاق مفهوم شامل ومهيمن على الكل هو بالطبع مفهوم الحداثة.[7]
ومن المفاهيم المركزية في نظرية الحداثة لدى العروي، والتي تتفرع عن المفاهيم السابقة، مفهوم القطيعة المعرفية، فلا مجال في مسعى العرب نحو الحداثة إلى مفاهيم الاستمرارية التاريخية، من تأصيل أو تجديد أو إحياء... إلخ، فكل المفاهيم التي نطلبها أو نعمل على ترسيخها هي بالضرورة نفي وقتل للمفاهيم التي كانت قبلها، وتجلى هذا الأمر بوضوح في دراساته المختلفة حول المفاهيم، وعلى رأسها مفهوم العقل، لقد حاول العروي عبر فصول طويلة وعميقة إثبات أن العقل الذي نطلبه اليوم تحت ضغط الحداثة (عقل الفعل)، هو مخالف تماما للعقل العربي الذي نحتفي به، ونكرر بمناسبة أو بدونها أنه نصير العلم، ويقدر التجربة والعمل (عقل الاسم)،[8] وجزء كبير من أعطاب الحداثة في البلاد العربية ترجع لهذه المفارقة المزمنة التي تمزق الثقافة وجهود الإصلاح بالعالم العربي.[9]
فإزاء هذه المشكلة لا مناص من القطيعة، واعتناق مفهوم العقل الحديث، باعتباره عقل الفعل، الذي نحتاجه ولا يوجد في تراثنا، يقول العروي: «يتأصل عقل الفعل في نقض عقل الاسم. ولا يكون الإصلاح إصلاحا إنشائيا إلا في الإطار الأول وخارج إطار الثاني... الحسم الذي نتكلم عليه قد وقع بالفعل في جميع الثقافات المعروفة لدينا، ابتداء من القرن 16م إلى يومنا هذا»،[10] إلا العرب فلا زالوا مترددين ومتأرجحين بين العقلين.
وإجمالا؛ إن الأطروحة التي اقترحها الأستاذ عبد الله العروي على العرب لتحقيق الحداثة، وتدارك التأخر التاريخي الذي يعانونه منذ قرون، لها ثلاث مفاتيح رئيسية: الماركسية باعتبارها تجسيد للفكر التاريخي ووعي علمي بالتاريخانية؛ ونفي الأصالة والاستقلال التاريخي، لصالح الوحدة الإنسانية، ووحدة التطور التاريخي؛ والقطيعة المعرفية، التي من شأنها تسهيل الإندماج في ثقافة الحداثة، واعتناق مفاهيمها المركزية. وبالرغم من شدة التحولات التي مر بها العالم والمنطقة العربية في العقدين الأخيرين، لم يتزحزح العروي عن أطروحته، ولم يبدل قناعاته، فلا زال مؤمنا بقدرة الفكر التاريخي على تحديث العالم العربي.[11]
2- أطروحة الجابري: استدعاء العقلانية النقدية
يعتبر الدكتور محمد عابد الجابري من المغاربة الأوائل الذين اشتغلوا على المتن التراثي، وحاولوا تفكيكه، وكشف بنياته العميقة، ومنطقه الداخلي، وقد ظهر هذا الميل جليا في أعماله الأولى مثل «العصبية والدولة»، (1971م)، وخاصة كتابه «نحن والتراث» (1980م). ولن نجانب الصواب إذا قلنا أن التصاق الجابري بالتراث، لمدة ليست بالقصيرة، وتحليل أطراف وعينات مختلفة منه، مكنته من صوغ جملة من الفرضيات حول انحطاط العقل العربي، وسبل تحديثه، وقد بلور هذه الفرضيات، واستدل عليها في عمله الرائد، والذائع الصيت «نقد العقل العربي» بجزأيه، «تكوين العقل العربي» (1982م)، و«بنية العقل العربي» (1986م)، وهو ما مكنه في النهاية من بلورة نظرية كاملة القوام حول الحداثة، استنادا إلى تحديث العقل.
يفتتح الجابري القول في هذه الأطروحة بكلام بالغ الدلالة، يكشف بشكل واضح أبعاد أطروحته، ومراميها، يقول: «يتناول هذا الكتاب موضوعا كان يجب أن ينطلق القول فيه منذ مائة سنة. إن نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة. ولكن نهضتنا العربية الحديثة جرت فيها الأمور على غير هذا المجرى، ولعل ذلك من أهم عوامل تعثرها المستمر إلى الآن. وهل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟».[12] ومن ثم، فالغاية من نقد العقل العربي هي مراجعة شاملة لهذا العقل، تخلصه من موانع النهوض، وتصلح أعطابه.
فالفرضية الأساسية التي بنى عليها الجابري أطروحته هي أن المدخل الأساسي للحداثة أو النهضة هو العقل، فبدون "عقل ناهض" لا يمكن الإتيان بنهضة، مهما بذل من جهد وطاقة، وابتدأ عمله، أولا بتعريف العقل (العقل المُكَوَن)، وفي هذا المعنى يقول الجابري: «العقل العربي كما سنتناوله بالتحليل والفحص في هذه الدراسة... [هو] الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم أو تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية كما تحمل وتعكس وتعبر، في ذات الوقت، عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن»،[13] وبعد التعريف، والاستدلال على سلطة العقل على الوجود، انصرف الجابري إلى تفسير تكون العقل العربي بأبعاده المختلفة اللغوية، والفقهية، والفلسفية، والكلامية... إلخ، وحاول ربطه بشروطه الموضوعية والتاريخية، واستغرق منه هذا الأمر الجزء الأول من الكتاب، أما في الجزء الثاني من الكتاب فقد عكف على تحليل بنية العقل العربي، وكشف تعالقاتها الداخلية، واستخدم في هذا السياق مقاربتين منهجيتين، مقاربة أسماها "تكوينية" ومقاربة "تحليلية بنيوية".[14]
وفي كلتا المرحلتين (التحليل التكويني أو التحليل البنيوي) حاول الجابري تشخيص علَّة التخلف العربي، حيث أرجعها بشكل عام إلى استقالة العقل، التي ظهرت أماراتها في قارات الثقافة العربية الثلاث، البيان، والعرفان، والبرهان، بأشكال وصيغ متفاوتة، فالمسلمون «بدؤوا يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم استقالته، حينما أخذوا يلتمسون المشروعية الدينية لهذه الاستقالة، في حين بدأ الأوروبيون يتقدمون حينما بدأ العقل عندهم يستيقظ ويسائل نفسه».[15] فهاجس الجابري الرئيس على امتداد فصول الكتاب بجزأيه هو كشف مظاهر وأشكال استقالة العقل العربي من الحياة، والنشاط الحضاري للأمة في العلوم الفقهية والفلسفية واللغوية... إلخ.
وأثناء تشريحه لبنية العقل العربي، وخلال طلبه علّة التخلف والانحطاط، وقف الجابري على بعض رموز الاستنارة، والعقلانية في التراث والعقل العربيين، ومن أبرز هذه الرموز ابن حزم، وابن باجة، وابن رشد (الفيلسوف)، والشاطبي، وابن خلدون، وقد حلل عطاءهم المستنير بأناة وصبر، كاشفا -في الوقت نفسه- النقاب عن أسس مشروع نهضة، مبكرة، مجهضة، ذابت وصارت نسيا منسيا.[16]
فهكذا؛ وانطلاقا مما سبق، يقترح الدكتور محمد عابد الجابري وصفته للحداثة في المجال العربي، والتي يمكن إجمالها في العبارة التالية: تجديد الصلة بالعقلانية النقدية في "العقل العربي التراثي"، فلا حداثة –بحسبه- من دون اتصال، أي لا حداثة مع القطيعة، فما ننشده اليوم «من تحديث للعقل العربي وتجديد للفكر الإسلامي يتوقف ليس فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلمية والمنهجية المعاصرة، مكتسبات القرن العشرين وما قبله وما بعده، بل أيضا ولربما بالدرجة الأولى يتوقف على مدى قدرتنا على استعادة نقدية ابن حزم، وعقلانية ابن رشد، وأصولية الشاطبي، وتاريخية ابن خلدون، هذه النزوعات العقلية التي لابد منها إذا أردنا أن نعيد ترتيب علاقتنا بتراثنا بصورة تمكننا من الانتظام فيه انتظاما يفتح المجال للإبداع، إبداع العقل العربي داخل الثقافة التي يتكون فيها. إنه بدون التعامل النقدي العقلاني مع تراثنا لن نتمكن قط من تعميم الممارسة العقلانية على أوسع قطاعات فكرنا العربي المعاصر...، كما أنه بدون هذه الممارسة العقلانية على معطيات تراثنا لن يكون في إمكاننا قط تأصيل العطاءات الفكرية التي يقدمها، أو بالإمكان أن يقدمها قطاع آخر من فكرنا العربي المعاصر القطاع الذي يدعو إلى الحداثة والتجديد. إنه باستعادة العقلانية النقدية التي دشنت خطابا جديدا في الأندلس والمغرب مع ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون، وبها وحدها، يمكن إعادة بنينة العقل العربي من داخل الثقافة التي ينتمي إليها، مما يسمح بتوفير الشروط الضرورية لتدشين عصر تدوين جديد في هذه الثقافة».[17]
وإجمالا؛ إن أطروحة الدكتور محمد عابد الجابري التي يقترحها على العرب للتحقق من الحداثة، وتدارك التأخر التاريخي الذي نعانيه، تقوم على استدعاء العقلانية النقدية، كشرط لإطلاق دينامية إبستيمولوجية وثقافية، منتجة للحداثة في المجالات المختلفة، وأي سعي للتحديث خارج هذه القاعدة هو ضرب من ضروب العبث، ومضيعة للوقت والجهد.
3- أطروحة طه عبد الرحمن: دعوة لاعتناق "روح الحداثة" بدل "واقع الحداثة"
انخرط الدكتور طه عبد الرحمن بقوة في الجدل الفكري حول الإصلاح في الوطن العربي مع صدور كتابه الأول في هذا الباب «تجديد المنهج في تقويم التراث» (1994م)، الذي عقب فيه تعقيبا علميا على أطروحة الجابري حول "العقل العربي". ولعل هذا الصدام الفكري العلني-العالم كان السبب الرئيس الذي دعا الدكتور طه للتفكير في الشأن الإصلاحي، وإعطائه الأولوية بين اهتماماته العلمية المتعددة، وظهر ذلك جليا في كتابيه «سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية» (2000م)، و«روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية» (2006م).
يستهل الدكتور طه قوله في الحداثة الإسلامية بنقد لاذع للنماذج التحديثية العربية، سواء منها الإسلامية أو "التغريبية"، على حد قول طه، ويتهمها بالتقليد في الوقت الذي تبشر فيه بالثورة والتجديد، ومعانقة آفاق الإبداع المختلفة،[18] فالإسلاميون يقلدون المتقدِّمين، والتغريبيون يقلدون الغرب، «فكلا النوعين من المقلدة لا إبداع عنده، إذ مقلدة المتقدمين يتبعون ما أبدعه السلف من غير تحصيل الأسباب التي جعلتهم يبدعون ما أبدعوه؛ ومقلدة المتأخرين يتبعون ما أبدعه الغرب من غير تحصيل الأسباب التي جعلتهم يبدعون ما أبدعوه»،[19] الشيء الذي يؤدي إلى ترسيخ التخلف وتكريسه.
وللخروج من مأزق التقليد، يقترح طه عبد الرحمن نظريته في "الحداثة الإسلامية"، القائمة على مفهوم مركزي وهو "روح الحداثة"، مقابل "واقع الحداثة"، فالغرب في نظره، كواقع حداثي هو مجرد تطبيق واحد من تطبيقات عديدة محتملة لروح الحداثة، ويحدد الدكتور طه هذا المفهوم، أي روح الحداثة بثلاث مبادئ كبرى، يفترض أن الواقع الحداثي يحققها أو قل "يطبقها" بأشكال متفاوتة،[20] وهي على التوالي:
- مبدأ الرشد؛ مقتضى هذا المبدأ أن الأصل في الحداثة الانتقال من حال القصور إلى حال الرشد، الذي يعني التخلص من التبعيات بأشكالها المختلفة.[21]
- مبدأ النقد؛ ومقتضى هذا المبدأ أن الأصل في الحداثة هو الانتقال من حال الاعتقاد إلى حال الانتقاد، أي الانتقال من عقلية التسليم إلى عقلية طلب الدليل على الشيء.[22]
- مبدأ الشمول؛ ومقتضى هذا المبدأ هو أن الأصل في الحداثة الإخراج من حال الخصوص إلى حال الشمول، على مستوى المجال وعلى مستوى المجتمع.[23]
ويلخص طه هذا التعريف على النحو التالي: «وعلى الجملة، فإن روح الحداثة تتكون من مبادئ ثلاثة؛ أولها "مبدأ الرشد"، ويقضي بوجود الاستقلال عن الأوصياء والأولياء، ووجود الإبداع في الأقوال والأفعال؛ والثاني "مبدأ النقد"، ويقضي بممارسة التعقيل في كل شأن من شؤون الحياة وممارسة التفصيل في كل أمر يحتاج إلى مزيد الضبط؛ والثالث "مبدأ الشمول"، ويقضي بحصول التوسع في كل المجالات وحصول التعميم على كل المجتمعات؛ فخصائص الروح الحداثية إذن هي أنها روح راشدة وناقدة وشاملة».[24]
فانطلاقا من هذه المبادئ المجسدة لمفهوم "روح الحداثة" يستنتج طه عبد الرحمن مجموعة من النتائج من أبرزها: تعدد تطبيقات روح الحداثة؛ التفاوت بين الروح والواقع في أغلب التطبيقات؛ خصوصية واقع الحداثة الغربية كتطبيق؛ أصالة روح الحداثة وأنها غير مرتبطة بعصر أو جنس معين….[25] وبناء على هذا المفهوم، والنتائج المترتبة عنه، حدد طه عبد الرحمن الشروط العامة للتطبيق الإسلامي لروح الحداثة،[26] وهي على التوالي: اجتناب آفات التطبيق الغربي لروح الحداثة؛ اعتبار الحداثة تطبيقا داخليا وليس أمرا خارجيا؛ اعتبار الحداثة تطبيقا إبداعيا، لا تطبيقا اتباعيا.[27]
ولم يكتف الدكتور طه بهذه التوجيهات العامة، بل قام بدلالة القراء وطلاب الحداثة عموما على مسالك التطبيق الإسلامي لمبادئ التحديث الثلاث: النقد، والرشد، والشمول، بصورة تجنب المسلمين الوقوع في آفات التطبيق السيئ لروح الحداثة، مستخدما بشكل كثيف المفاهيم القرآنية المناسبة من قبيل التدبر، والمؤاخاة، والتراحم، والتعارف، والتزكية... إلخ.
وإجمالا؛ إن مفهوم روح الحداثة الذي صاغه الدكتور طه، مفهوم نظري مجرد، لا يمتّ بصلة لأي تطبيق من تطبيقات الحداثة، وغير محكوم بها، بل حاكم عليها، واستنادا إليه تبدو الحداثة الغربية مجرد تطبيق ناقص من بين عدة تطبيقات محتملة، كما يتيح من الناحية النظرية إمكانية ظهور تطبيقات أخرى أكثر نضجا من التطبيق الغربي. ومن ثم، فمشكلة التحديث في الوطن العربي من منظور أطروحة طه، تكمن أساسا في استدعاء العرب "التطبيق الغربي"، وسعيهم وراءه، وبالمقابل إهمالهم الروح المولدة للفعل الحداثي الحقيقي، أي تمثل شروط روح الحداثة في الفعل، وبالتالي الإتيان بتطبيق جديد يتجاوز المنجز الغربي (الحداثة الغربية وما بعدها).[28]
*******
وفي ختام هذه القراءة، نلفت انتباه القراء الأعزاء إلى ملاحظة ذات دلالة هامة، إن الأطروحات الثلاث التي أجملنا القول فيها سابقا، متعاقبة وليست متزامنة، فظهورها المتتالي جعل اللاحق تعقيب بالضرورة على السابق، فالجابري رحمه الله، حاول تفنيد أطروحة القطيعة والتاريخانية التي نظر لها العروي، وذلك بإثبات إمكانية الصلة مع التراث، وخاصة بعض جوانبه، كما أن أطروحة طه تعقيب نقدي حاد على أطروحة الجابري، فقد رد عليه منهجه التجزيء في التعامل مع التراث، ودافع عن التكامل بين أجزاء التراث المختلفة، غير أن أقوى اعتراض دفع به طه في وجه أطروحة "العقلانية النقدية" التي شيدها الجابري، تمثل في "تبخيس العقلانية" مقابل الأخلاقية، والبرهنة على إمكانية الإتيان بحداثة من غير طريق الغرب وعقلانيته، فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: هل هذا التعاقب له علاقة بالأوضاع السياسية والتاريخية على الصعيدين العربي والعالمي أم أن الأمر مجرد اتفاق؟.
وعموما؛ إن الفكر العربي الإسلامي في المغرب المعاصر، الذي أشرفنا على بعضه في هذه الإطلالة، متنوع وغني، وأن ما ذكرناه في الصفحات السابقة، هو مجرد وصف عام للشجيرات التي تخفي الغابة الباسقة الممتدة على مدى قرن من الزمان تقريبا. لكن ومهما تكن آفات الاختصار والاقتصار، فإن ما قدمناه كاف للدلالة على التزام الفكر المغربي بالقضايا العربية، والمصير المشترك للإنسان العربي، فجل الأطروحات النهضوية والتحديثية التي أبدعها العقل المغربي في الفترة المعاصرة، لم تفصل المغرب عن عمقه العربي والإسلامي، بل كانت شديدة الحرص على الوحدة العربية والإسلامية، ونظرت للحداثة باعتبارها مغربية وعربية في آن واحد.
ومن ناحية أخرى، إن الأمثلة التي أوردناها أعلاه، باعتبار ذيوعها وتأثيرها في الرأي العام الفكري العربي، تقدم مثالا واضحا عن روح الابتكار والإبداع الذي تميز به الفكر المغربي المعاصر، فقد بذل كل من العروي والجابري وطه عبد الرحمن... إلخ، جهودا مضنية لصوغ معادلات فكرية ووصفات لحل معضلة التخلف، وتدارك التأخر التاريخي، وتدل مساحات البياض التي سودوها، والتي تقدر صفحاتها بالآلاف، بشكل ملموس على نبوغ وذكاء فكري غير متاح دائما، ولا يتحقق بسهولة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق