فرّ على الدوام من عدسات الكاميرا واستجوابات الصحافيين، لدرجة أن اسمه نادرا ما تواجد في صحيفة مغربية حتى وهو من بين المؤسسين للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، النقابة الوطنية للتعليم. الرجل الذي رافق مجموعة من كبار الشخصيات المغربية، وكان بمثابة علبة أسرار الراحلين الفقيه البصري ومحمد عابد الجابري، قبِل أخيرا أن يدلي بشهادته على عدة أحداث مهمة عايشها وكان شاهدا عليها، كي يساهم في إنارة بعض الدروب المظلمة من التاريخ المغربي الحديث، وبالضبط تلك الفترة الحرجة التي استمرت من سنوات الاستقلال إلى تجربة التناوب التوافقي.
عبد القادر الحضري، الأستاذ الجامعي المتقاعد، الذي قرر أخيرا الانزواء في منزله بالحي الحسني الدار البيضاء عوض أن يبقى فاعلا في حزبٍ كثُرت ضده الانتقادات، يتحدث في هذا الحوار الحصري الذي تنشره هسبريس على حلقات، عن الأسباب الذي جعلت الحسن الثاني يسقط حكومة عبد الله إبراهيم، وكيف "خان" الاتحاد المغربي للشغل ثقة المنضوين تحته، عارجا على الخلافات الكبيرة التي وقعت بين قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم على اغتيال المهدي بنبركة، فظروف تشكيل الاتحاد الاشتراكي، وعدة أحداث مهمة أخرى في إطار ما يُعرف بسنوات الرصاص.
(الجزء ال11)
ما هي الظروف العامة التي تم فيها تأسسيس للكونفدرالية الديمقراطية للشغل "الكدش" سنة 1978؟
تأسيس المركزية النقابية كان لهدف تجاوز حالة ابتعاد العمال عن السياسة خاصة وأن الاتحاد المغربي للشغل صار تابعا لأجهزة الدولة، وقد احتاج التأسيس مجهوداً منظما ومتواصلا استنزف مدة لا تقل عن أربع سنوات متواصلة من العمل للمناضلين النقابيين؛ ليشرع في الاعداد لإضرابات مطلبية وسياسية في آن واحد، وقد كانت الكونفدرالية وقتها ورقة ضغط اتحادية على أجهزة الدولة، ومحاولة جادة وقوية لكسر ارتباط القيادة النقابية السابقة بها، كما أتت تأكيداً لأهمية وفعالية التحليل النظري وصوابية رؤية الاتحاد الاشتراكي، باعتبارها امتداداً لتصور الشهيد المهدي بنبركة، وهو التصور ذاته الذي تبلور في المؤتمر الثاني وتم الالتواء عليه وتغييره بتقرير آخر كتبه عبد الله إبراهيم، ليصب في قناعات الجناح المهيمن على المركزية النقابية: الاتحاد المغربي للشغل.
ما هي أول مواجهة لـ"الكدش" مع الدولة؟
أول إضراب كان خلال شهر أبريل 1979، وقد كان معركة عمالية خاضها رجال التعليم ورجال الصحة والصناعة البترولية والسكرية دفاعا عن مطالبهم العادل، وقد واجهت الدولة ذلك الإضراب بشراسة قمعية تجاوزت الحد المقبول، إذ ألقت بالمئات من المناضلين في السجون وعزلت الكثيرين من الوظيفة العمومية، كما لم تترك وسيلة للإرهاب والتخويف إلا واستعملتها، الأمر الذي أدخل البلاد في جو من التوتر. ولم تكتفِ الحكومة بتصعيد القمع والفصل عن الوظيفة العمومية، بل تعدتها لمحاكمة ما لا يقل عن 180 مناضلا نقابيا ممّن صدرت في حقهم أحكاما قاسية.
وكيف كان رد القيادة النقابية؟
استمر الصمود والإصرار على تحقيق المطالب وعلى رأسها الحق في الإضراب باعتباره حقاً دستورياً ينص عليه الفصل 14 من الدستور، وقام القياديون برفع دعوى ضد الحكومة إلى لجنة الحريات النقابية بجنيف، وأعدوا بهذا الصدد ملفاً قوياً يدين الحكومة لتجاوزها القوانين والأعراف المتبعة دوليا ومحليا؛ وبذلك أصدرت المنظمة الدولية للشغل قراراً يطالب الحكومة بالتراجع عن الاجراءات التعسفية الناتجة عن إضراب 1979 الجائرة في حق المطرودين من رجال التعليم ورجال الصحة، مثلما أصدرت قرارا آخر يدين ضمنيا الحكومة المغربية لتجاهلها للواقع النقابي الجديد بالمغرب.
لكن رغم هذا التحذير الدولي، فقد استمرت الحكومة في الرفع من الأسعار؟
صحيح، فقد أقدمت الحكومة مرة أخرى على توجيه ضربة جديدة للقدرة الشرائية للجماهير الشعبية عموما، والطبقة العاملة خصوصا، بإعلانها الزيادة في أسعار المواد النفطية ومشتقاتها، والتي ستكون مبررا للمضاربين والاحتكاريين بإعلان زيادات أخرى في جميع المواد الاستهلاكية. ومن المعلوم أن هذه ثاني زيادة في أقل من سنة، بعد الزيادة الجهنمية في المواد الاستهلاكية الأساسية، من سكر وزيت وحليب وحبوب ونقل وغيرها، فضلاً عن الزيادات اللا مشروعة في غياب المراقبة القارة والمسؤولة.
وقد حددت الكونفدرالية أجلاً محدداً للحكومة من أجل التراجع الفوري عن إجراءاتها الظالمة إضافة إلى مطالبتها بالزيادة في الأجور، ولمّا انتهى الأجل دون الاستجابة للمطالب، وأمام استنفاذ لكل المحاولات المبذولة بهدف فتح حوار مسؤول وهادف للوصول لحلول مرضية للطبقة العاملة، لم يبق من حل للمركزية سوى الدعوة للإضراب العام ودعوة جميع المنظمات النقابية لتحمل مسؤوليتها بالمشاركة فيه لوضع حد للقرارات غير مسؤولة.
متى كان هذا الإضراب؟
دعا المكتب التنفيذي للكونفدرالية للإضراب الإنذاري العام على الصعيد الوطني لمدة 24 ساعة، وذلك يوم السبت 20 يونيو 1981، وقبل ذلك بأيام، ومن أجل التشويش والمزايدة، دعا الاتحاد المغربي للشغل إلى إضراب مقتصر على عمالة الدار البيضاء يوم 18 يونيو. والمؤسف أن الحكومة، وبدلاً من تفهم الوضع المتوتر والاستجابة للمطالب العادلة والمعقولة، ردت بقمع أعنف مما سبق عند إضراب 1979 واعتقلت الكاتب العام للكونفدرالية العمالية المناضل الصلب محمد نوبير الأموي ومعه بعض أعضاء المكتب التنفيذي، كما شنت حملة من الاعتقالات في صفوف المناضلين النقابيين وزجت بهم في الكوميساريات، الأمر الذي زاد البلاد توترا فانفجارا شعبيا فاق التوقعات ولزم إنزال كل القوى القمعية لمواجهته، وقد نتج عن ذلك سقوط الكثير من الموتى والجرحى تبعته محاكمات قاسية.
هل تسمية وزير الداخلية الراحل إدريس البصري للقتلى بـ"شهداء الكوميرا" محاولة منه لربط مطالبهم بالحد من ارتفاع أسعار المواد الغذائية؟
البصري أراد الاستهزاء من تلك الأرواح البريئة التي كانت ضحية للقمع الشرس اللا إنساني؛ وفي الحقيقة والواقع، فقد كان إضراباً نضالياً محكوما بخلفية استنكار التسلط والطغيان والاستغلال الناتج عن اختيارات لا شعبية تقود البلاد للهاوية ويَنتج عنها تفقير الجماهير الكادحة وتجهيلهم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق